
بقلم الدكتور نبيل فياض رحمه الله .
المصطلح ملاك، المشتق من اللاتينية المتأخرة angeluss (تعني حرفياً، “مرسلاً”)، المستعارة بدورها من اليونانية المتأخرة ἄγγελος أغيلوس، والتي تترجم من قبل غير الناطقين باليونانية باللفظ أنغيلوس ángelos. يرى الألسني الهولندي، ر. س. بي. بيكس، أن أنغيلوس ذاتها يمكن أن تكون مستعارة من الشرق، مثل ἄγγαρος.
الكلمة اليونانية angelos، مرادفة للكلمة العبرية ملاخ מַלְאָךְ mal’akh, جمعها ملاخيم: מלאכים al’akhim ، وهي تعني “مرسلاً” أيضاً. إن المعنى الحرفي للكلمة ملاك إنما يدلّ أكثر من ثم على الوظيفة أو الوضعية لمثل هذه الكائنات في تسلسل هرمي كوني وليس على دلالات الجوهر أو الطبيعة، والتي كانت بارزة في التقوى الشعبية، خاصة في الأديان الإيراهيمية. وبالتالي، فإن للملائكة أهميتهم في المقام الأول في ما يفعلونه أكثر مما هم يكونونه. أياً كان جوهرهم أو طبيعتهم الفطرية فهم يمتلكونهما من حيث علاقتهم بمصدرهم (الله، أو الكائن النهائي). وبسبب علم الأيقونات الغربي (نظام رموز الصور) الخاص بالملائكة، فقد أضفي عليهم الهويات الأساسية التي تتجاوز في كثير من الأحيان علاقاتهم الوظيفية بالقدوس أو المقدس وعلاقاتهم الأدائية بالعالم المدنس. وبعبارة أخرى، فإن التقوى الشعبية، التي تتغذى على تمثيلات الملائكة الغرافيكية والرمزية، قد شكّلت إلى حد ما وضعية نصف إلهية أو حتى إلهية للشخصيات الملائكية. وعلى الرغم من أن مثل هذه الظهورات لا تُكرّس عادة مذهبيّاً أو لاهوتياً، إلا أن بعض الشخصيات الملائكية، مثل ميثرا (وهو إله فارسي، أصبح في الزرادشتية وسيطًا ملائكيًا بين السماء والأرض وهو يدين ويحفظ العالم المخلوق)، قد أحرز وضعية نصف إلهية أو إلهية عند طوائفه الخاصة.
إن الطبيعة الدقيقة للكائنات غير البشرية المذكورة في الكتاب المقدس – الملائكة ، أو الرسل ليست واضحة تمامًا، ويبدو أن أدوارهم سريعة الزوال. في الفترة اللاحقة للحقبة، ربما تحت التأثير الإيراني، وفي الأدب المتأخر الكتابي وما بعد الكتاب المقدس، تظهر هذه الكائنات كأفراد أكثر اكتمالاً وغالباً ما يكونون كأفراد يمكن التعرف عليهم بأسمائهم الشخصية. لقد أفسحت النظرة الكتابية غير المركزة الطريق أمام تسلسل هرمي من الموظفين الذين تصرفوا، في بعض الرؤى الأبوكاليبتية، كبيروقراطية سماوية حقيقية. وعلى الرغم من وجود توافق في الآراء بشأن وجودها، لم يكن هناك اتفاق يذكر حول دورها أو أهميتها. في بعض المدراشيم Midrashim ، يطلب الله مشورتهم؛ في مصادر أخرى، فإن الحاخامات يحثون اليهود على عدم إشراكهم بل على الاقتراب من الله مباشرة.
مثل الأشكال المضادّة من الشياطين، الملائكة لها وجود متبقٍ متجذر في طبقات مختلفة من التجربة اليهودية وتفسير الكون. في بعض الأحيان تكون فردية للغاية وتُحَقق بحدة؛ في أحيان أخرى هم أكثر خيالية. اخترع القباليون Kabbalists باستمرار ملائكة جديدة وزودوها بشبكة معقدة لوجودها الكوني. لكن دورهم، حتى في فترات التركيز، كان هامشيًا، وكانوا خارج الحركات والمعاني العظيمة للفكر اليهودي.
خلال تاريخ الأديان، تواجدت أنواع ودرجات اعتقادات بمختلف الكائنات والقوى والمبادئ الروحية التي تتوسط بين العالم المقدس أو القدسي – أي، العالم المتسامي – والعالم الدنيوي للزمان والمكان، العلّة والمعلول. وعادة ما تسمى هذه الكائنات الروحية عندما ينظر إليها على أنها خيرة بالملائكة في الأديان الإبراهيمية؛ وأولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم “أشرار” يُطلق عليهم الاسم “شياطين”. في الديانات الأخرى – الشرقية، القديمة، وغير المتعلمة – هذه الكائنات الوسيطة أقل حسماً في تصنيفها، لأنها قد تكون خيرة في بعض الظروف وشريرة في أخرى.
في الزرادشتية كان هناك اعتقاد بمجموعة الأميشا سبندا أو سبنتا amesha spendas ، أو الخالدون المقدسة أو الخيّرون، الذين كانوا سمات وظيفية أو كيانات لأهورا مزدا Ahura Mazdā، الرب الحكيم. أحد الأميشا سبنتا، وهو فوهو ماناه (العقل الخيّر)، كشف للنبي الإيراني زرادشت (القرن السادس قبل الميلاد؟) عن الإله الحقيقي، طبيعته، وعن نوع من الميثاق الأخلاقي، الذي قد يقبله الإنسان ويطيعه أو يرفضه ويعصيه. وعلى نحو مماثل، بعد حوالي 1200 سنة، كشف الملاك جبريل (المرسل من الله) للنبي محمد (القرنان 6 – 7 م) عن القرآن (الكتاب الإسلامي المقدّس) وعن الإله الحقيقي (الله)، وحدانيته، والمتطلبات الأخلاقية والعبادية للإسلام. الصفات المستخدمة لوصف جبريل، رسول الله – “روح القداسة” و”الروح المخلصة” – مشابهة لتلك التي تطلق على الأميشا سبنتا الزرادشتية والأقنوم الثالث من الثالوث (الآب والابن والقدس الروح) في المسيحية. في هذه الديانات التوحيدية (على الرغم من أن الزرادشتية أصبحت ثنوية في وقت لاحق وفي اعتقادنا أن الإسلام واليهودية رغم الزعم بالتوحيد، كما أشرنا من قبل، يبدو طابعهما الثنوي واضحاً للغاية) كما هو الحال في اليهودية، فإن الخصائص الوظيفية للملائكة يتم التعبير عنها بوضوح أكثر من خصائصها الأنطولوجية (أو طبيعة الكينونة) – عدا في الحالات الكثيرة التي يتم فيها طغيان التقوى والأسطورة الشعبيتين على الجوانب الوظيفية.
الديانات المختلفة، بما في ذلك الديانات غير المتعلمة، لديها معتقدات بالكائنات الوسيطة بين العوالم المقدسة والدنيوية، لكن الاعتقاد هو الأكثر تفصيلاً في الديانات الإبراهيمية والزرادشتية.
الشياطين:
تُشتق الكلمة الإنكليزية الحديثةdevil (شيطان أو شرير) من اللفظة الإنكليزية الوسيطة ديوفول dēofol، التي تمثّل بدورها استعارة ألمانية قديمة من اللفظة اللاتينية ديابولوس diabolus، وهذه بدورها أيضاً مستعارة من اليونانية ديابولوس διάβολος ، “المفتري”، التي هي مشتقة من الفعل ديابالين διαβάλλειν، “يفتري”، المكون من ديا διά، “عبر، خلال”، وبالين βάλλειν، “يرشق”.
دايمون Daemon هي المعادل اللاتيني لمصطلح دايمونδαίμων اليوناني، الذي يعني: “إله”، “مثل إله”، “قوة”، “قدر”، والذي كان يعني أصلاً إلهاً أدنى شأناً أو روحاً هادية. والكلمة مشتقة بدورها من دايمون daimon الهندو-أوروبية البدئية التي تعني “مزوّد، مقسّم” (الثروات أو الأقدار، من الفعل دا، الذي يعني “يقسم”). ربما نُظر إلى دايمون على أنه إله حافظ، وفق الباب δαίμωνفي معجم ليدل وسكوت اليوناني الإنكليزي.
يظهر المفهوم دايمون اليوناني على نحو ملحوظ في اعمال أفلاطون، حيث يصف الوحي الإلهي لسقراط.
إذن، يشتق المصطلح شيطان من الكلمة اليونانية daimōn ، التي تعني “كائن خارق للطبيعة” أو “روح”. وعلى الرغم من أنه يرتبط عادة بروح شريرة أو سيئة، فإن هذا المصطلح يعني في الأصل كائنًا روحانيًا يؤثر في شخصية الشخص. فعلى سبيل المثال، كان agathos daimōn (“روح خيّرة”) طيباً في علاقته بالبشر. تحدّث الفيلسوف اليوناني سقراط، على سبيل المثال، عن الدايمون باعتباره روحًا ألهمته البحث عن الحقيقة والتحدث عنها. وراح المصطلح يطبّق بالتدريج على الأرواح الأدنى شأناً في عالم ما فوق الطبيعة والتي مارست ضغوطًا على الناس للقيام بأعمال غير مؤاتية لخيرهم. وقد تم ترجيح التفسير السائد لصالح الحقد وما ينطوي عليه من شر ومأساة وفساد.
في أديان الشعوب غير المتعلّمة، قد يُنظر إلى الكائنات الروحية على أنها إما خبيثة أو خيّرة وفقاً للظروف التي تواجه الفرد أو المجتمع. وبالتالي، فإن التصنيف المعتاد الذي يضع الشياطين بين الكائنات الحاقدة لا ينطبق بشكل كامل بالإشارة إلى هذه الأديان.
وكما أشرنا غير مرّة، إنّ مواقف الكائنات أو الكيانات الروحية التي ينظر إليها على أنها خيرة أو حاقدة، تُعكس مع مرور الوقت. وقد كان هذا هو الحال في الديانة الهندية الإيرانية القديمة، التي تطورت منها الديانة الزرادشتية القديمة والديانة الهندوسية القديمة كما تنعكس في الفيدات (ترانيم آرية قديمة). في الديانة الزرادشتية، كان ينظر إلى الديفاتdaevas على أنها كائنات حاقدة، لكن نظرائها، أي الديفات devas في الهندوسية القديمة، كانوا ينظر إليهم على أنهم آلهة. كانت أهورات الزرادشتية “أرباباً” خيرين، لكن نظراءهم في الهندوسية، الأسورات، حوّلوا إلى أرباب أشرار. وبطريقة مماثلة ، أصبح الشيطان، المدعي العام بالنسبة للبشر في محكمة عدل الله في سفر أيوب من العهد القديم، العدو الرئيس للمسيح في المسيحية والإنسان في الإسلام. وتشير العديد من التحولات المماثلة إلى أن الفروق الحادة بين الملائكة كخيرين والشياطين كخبثاء قد تكون مفرطة في التبسيط، مع ذلك قد تكون هذه التسميات مفيدة كمؤشرات للوظائف العامة لمثل هذه الكائنات الروحية.