تصفح

حقيقة اللاهوت في التاريخ القديم وعند الفلاسفة والمفكرين

على حائط معبد دلف حرف E. وقيل عن هذا الحرف إنه يشير إلى جواب الانسان عن سؤال موجه من الله. عندما تقترب من المعبد يقول لك الله : اعرف نفسك. وأنت تجيب: أنت، أيها الاله، موجود، وأنت وحدك الموجود بمعنى الكلمة. أما الموجودات الأخرى بمن فيها نحن فليس لها وجود حقيقى لأنها ليست ثابتة، وأنت لا تستطيع الامساك بها. الله وحده هو الموجود وبدون حدود فى الزمان لأنه أبدي، ومن ثم فهو يتجاوز الحركة والزمان والتغير. ولهذا يقال أيضا أنت الواحد ولكنه لا يُرى ولا يٌعبر عنه بالألفاظ اللغوية وليس فى مقدور الانسان فهم طبيعته.

العقل محكوم عليه فى جزء من معرفته بمواجهة مسائل ليس فى الإمكان تجنبها

كانط أحدث خلخلة فى علم اللاهوت الذى يختص بالبحث في كل ما يتصل بالله، وذلك بإفساح المجال لنقد صورة الله على نحو ما يتصورها الإنسان، إلا أن هذه الخلخلة لم تكن مفاجئة لأن تاريخ الفكر الانسانى يدل على أنه لم يستقر على تصور محدد عن الله، وتأتى فى مقدمة الأدلة على صحة هذا القول تعدد صورة الله عند الانسان منذ نشأة الحضارة الإنسانية فى العراق ومصر والهند والصين.

تسلتزم الصورة صورة أخرى سابقة عليها وهى صورة الله عند الله، أى الله على نحو ما هو فى ذاته، وليس على نحو ما هو فى ذات الانسان، وأظن أن الصورتين متباينتان، وسبب ذلك مردود إلى أن لدى الإنسان من الملكات المعرفية التى تؤهله لتصور صورة عن الله فى حدود هذه الملكات. مع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: هل عقل الإنسان محروم بالفعل من ملكات معرفية لا تسمح له برؤية صورة الله على نحو ما هى عند الله؟

أستعين فى الجواب عن هذا السؤال بالفيلسوف الألمانى العظيم كانط فى عبارته المأثورة التى وردت فى مفتتح كتابه المعنون «نقد العقل الخالص»: إن العقل محكوم عليه، فى جزء من معرفته، بمواجهة مسائل ليس فى الإمكان تجنبها، وهذه المسائل مفروضة عليه بحكم طبيعته، ولكنه عاجز عن الإجابة عنها، وهذه المسائل المطروحة بلا جواب تدور حول مفهوم المطلق سواء أطلقنا عليه لفظ الله أو الدولة، وقصة الفلسفة، فى رأى كانط، هى قصة هذا العجز، وهنا يميز كانط بين حالتين: حالة البحث عن قنص المطلق، وحالة قنص المطلق، ولكن تصور قنص المطلق بطريقة مطلقة وَهْم لأن المطلق بمجرد قنصه يصبح نسبياً، ومن هنا راح كانط يدلل على عدم قدرة العقل على البرهنة على وجود الله أو على عدم وجوده. ومن هنا أيضا يكون على العقل أن يقنع بأن تكون فكرة الله فى داخل العقل وليست فى خارجه، وأن تكون وظيفتها، فى هذه الحالة، توحيد معارف العقل فى وحدة واحدة هى الله كفكرة وليس كوجود.

خلخلة اللاهوت

أظن أن كانط قد أحدث خلخلة فى علم اللاهوت الذى يختص بالبحث في كل ما يتصل بالله، وذلك بإفساح المجال لنقد صورة الله على نحو ما يتصورها الإنسان، إلا أن هذه الخلخلة لم تكن مفاجئة لأن تاريخ الفكر الانسانى يدل على أنه لم يستقر على تصور محدد عن الله، وتأتى فى مقدمة الأدلة على صحة هذا القول تعدد صورة الله عند الانسان منذ نشأة الحضارة الإنسانية فى مصر وبابل والهند والصين،

صورة الله عند الفراعنة

الذى يهمنا هنا هو صورة الله عند الفراعنة، وأنا هنا أنقل عن المؤرخ المشهور جيس هنرى برستد من كتابه المعنون «فجر الضمير» ما ارتآه من وجود ظاهرتين طبيعيتين قد أثرتا على سكان وادى النيل وهما إله الشمس المعروف باسم «رع» وإله الخضرة المعروف باسم «أوزير».

كان الإله «رع» يُصور فى صورة انسان يجدف عبر المستنقعات السماوية فى زورق وكان مقره فى هليوبوليس، أى عين شمس وكان يعتبر فوق الآلهة الأخرى، وكان الناس يخاطبونه بقولهم أنت الذى تشرف على كل الآلهة ولا يشرف عليك إله ما ، وكانت له السيادة على جميع شئون مصر، وكان حامياً لفرعون. أما الإله «أوزير» فقد وُلد مع مولد الزراعة، ومن هنا كان القمح ينبت فى جسده، وكان يُصور فى شكل النيل، وكان مسئولاً عن إدارة شئون البشر، وكان مكان إقامته فى منف، ولذلك قيل عنها إنها مخزن غلال الإله.

كان الإلهان فى البداية فى حالة تنافس، ولكن مع التطور حدث دمج للإلهين مع التمايز وهو أن إله الشمس هو المعبر عن ديانة الدولة أما الإله «أوزير» فيعبر عن ديانة الشعب، ومع ذلك فقد حدث دمج للإله «رع» مع آلهة آخرين، وكان هذا الدمج يتم بأسلوب سلمي.

في اليونان

وبالذات فى أثينا فقد كانت الآلهة تقيم فى قمة جبال الأولمب وتؤلف حكومة على رأسها كبير الآلهة زيوس، ويجىء من بعده الآلهة والإلهات وكلهم فى صورة بشرية، يسكنون قصوراً فخمة فى السماء ويتزاوجون ويتدخلون فى منازعات البشر، ومن هنا كان الاتفاق بين الحضارة المصرية والحضارة اليونانية فى شأن صورة الآلهة عند الانسان، ومع ذلك فقد بدأ الافتراق بين الحضارتين مع مولد فيثاغورس فى اليونان أو بالأدق فى جزيرة ساموس فى عام 580 ق.م.ـ إذ وضع حداً لهذه الصور عن الآلهة استناداً إلى سببين: السبب الأول يكمن فى أنه هو الذى وضع لفظ «فلسفة» إذ قال: «لست حكيماً فإن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، وما أنا إلا فيلسوف، أى محب للحكمة» أما السبب الثانى فمردود إلى أنه هو أول من قال إن العقل هو أساس الحكم على الأشياء، بل هو أساس الرياضيات، وأساس الرياضيات هو البرهان، ومن هنا فقد انشغل بالبرهان لإثبات صحة ما يقول، وبفضل هذا الاكتشاف أسس أرسطو علم المنطق واعتبره مدخلاً إلى كل العلوم، واستناداً إلى علم المنطق أسس أقليدس علم الهندسة. ومن هنا انطلق المسار الحضارى فى تغليب العقل على الأسطورة. ومن هنا أيضاً تطورت صورة الله عند الانسان وبالذات عند الفلاسفة، كيف؟!

خشية تجاوز الطبيعة

الرأى الشائع أن الفلسفة وُلدت فى ملطية وهى إحدى المدن الأيونية ببلاد اليونان، وكان المولَد لها اسمه طاليس، ولهذا قيل عنه إنه أول فيلسوف فى رفقة ثلاثة آخرين اشتركوا كلهم فى البحث عن أصل الأشياء. وكان عليهم الاختيار بين عالمين: عالم قيل عنه إنه ما بعد الطبيعة أو ما فوق الطبيعة، وعالم آخر قيل عنه إنه الطبيعة. العالم الأول يموج بآلهة مقيمة عند قمة جبل الأولمب يتزاوجون ويمرحون ويعبثون بأحوال البشر، والعالم الثانى على نقيضه يموج بمادة قيل عنها إنها مادة حية هى أصل الأشياء.

وحيث إن العالم الأول أقرب إلى الأسطورة من العالم الثانى فانحازوا إلى الثاني، ومن ثم قيل عنهم إنهم الطبيعيون الأولون بسبب امتناعهم عن مجاوزة الطبيعة، ولكنهم تفرقوا بعد ذلك فى تحديد أصل الأشياء، فقال طاليس إنه الماء وقال أنكسمندريس إنه اللامتناهى بدعوى أن الماء لا يصلح أن يكون الأصل لأنه محدد وشرط الأصل ألا يكون محدداً. وقال أنكسمانس إنه الهواء بدعوى أنه لامتناه ويحيط بالعالم ويحمل الأرض. وقال هرقليطس من مدينة أفسس إن الأشياء فى تغير متصل، ولا أدل على ذلك من أنك حين تنزل النهر الواحد مرتين فإن مياهاً جديدة تجرى دائماً أبداً. أما أصل هذه الأشياء فهو النار لأنها قابلة للتغير، ولكنها فى تغيرها محكومة بالعقل والذى اسمه باليونانية اللوغوس الذى يرفض الأسطورة الذى اسمها باليونانية ميثوس.

مع ذلك فإن الخشية من تجاوز الطبيعة إلى ما بعدها أدى إلى ظهور السوفسطائيين، أى المعلمين. وكانت الغاية من ظهورهم إزالة هذه الخشية. وفى هذا المعنى قال كبيرهم بروتاغوراس فى مفتتح كتابه المعنون الحقيقة: «لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين» فاتهم بالالحاد وأحرقت كتبه وحكم عليه بالاعدام إلا أنه فر هارباً ومع ذلك غرق فى مياه النهر.

بعد السوفسطائيين جاء سقراط الذى سار فى المسار نفسه إذ ارتأى أن صور الآلهة عند الانسان زائفة إذ هى لا تتطابق مع ما ينبغى أن تكون عليه الآلهة، إذ لم يكن فى مقدوره معرفة ما يروق من الأعمال فى أعين الآلهة، وأيها ما لايروق، ومن ثم ارتأى أن الدين يلزم أن يكون محصوراً فى الضمير النقى وليس فى تقديم القرابين وتلاوة الصلوات مع تلطخ النفس بالاثم. وفى هذا السياق تقدم ثلاثة بعريضة إلى القضاء فى عام 399 ق.م. يقررون فيها أن سقراط ينكر آلهة المدينة ويقول بغيرهم وبذلك يفسد عقول الشباب فحكم عليه بالاعدام فنفذ الحكم وذلك بأن شرب الكأس حتى النهاية وبلا تردد. وتأسيساً على إصدار حكم بالاعدام على كل من بروتاغوراس وسقراط بدأ التفكير فى صورة عن الله تكون مفارقة لهذا العالم المحسوس. وكانت البداية عند أفلاطون تلميذ سقراط.

صورة الله عند أفلاطون

على حائط معبد دلف حرف E. وقيل عن هذا الحرف إنه يشير إلى جواب الانسان عن سؤال موجه من الله. عندما تقترب من المعبد يقول لك الله : اعرف نفسك. وأنت تجيب: أنت، أيها الاله، موجود، وأنت وحدك الموجود بمعنى الكلمة. أما الموجودات الأخرى بمن فيها نحن فليس لها وجود حقيقى لأنها ليست ثابتة، وأنت لا تستطيع الامساك بها. الله وحده هو الموجود وبدون حدود فى الزمان لأنه أبدي، ومن ثم فهو يتجاوز الحركة والزمان والتغير. ولهذا يقال أيضا أنت الواحد ولكنه لا يُرى ولا يٌعبر عنه بالألفاظ اللغوية وليس فى مقدور الانسان فهم طبيعته.

مع ذلك تصور أفلاطون عالماً آخر مغايراً لهذا العالم المحسوس وأطلق عليه عالم المُثل. ثم راح بعد ذلك يرتب المُثل ترتيباً تصاعدياً حتى انتهى إلى ثلاثة مُثل: الخير والحق والجمال، وأعلاهم مثال الخير. وهنا قال أفلاطون: كما أن الشمس هى مصدر الضوء والحياة فى هذا العالم كذلك الحال فى عالم المُثل فإن مثال الخير هو مصدر النور والحياة، ومن ثم فهو الله، وهو مفارق للعالم المحسوس. ومن هنا أصبح لفظ مفارق ملازما للفظ ما بعد الطبيعة أو ما فوق الطبيعة لعلو موضوعه وهو الله. وفى هذا السياق من التلازم أسس أرسطو تلميذ أفلاطون علماً جاء على هيئة مقالات بدون تحديد لاسم هذا العلم. وقد ارتأى أحد أتباع أرسطو أن هذه المقالات تأتى فى الترتيب بعد علم الطبيعة فأطلق عليها ذلك التابع اسماً مأخوذاً من مكانتها فى الترتيب وهو اسم « ما بعد الطبيعة». لكن مع التطور أصبح هذا العلم يختص بالبحث فى ثلاثة أمور: الله وخلود الروح وحرية الانسان

صورة الله عند أرسطو

بعد ذلك: ماذا كانت صورة الله عند أرسطو؟ جاء جواب أرسطو مخالفاً لرأى أفلاطون، إذ ارتأى أرسطو أن الله عند أفلاطون مجرد فرض يمتنع وصفه أو فهمه. ولكى يكون الله على غير ذلك فقد ارتأى أرسطو أن الله هو المحرك الأول وهو غير متحرك، يحرك ولا يتحرك، وبالتالى فإن الحركة، فى هذه الحالة، تكون أزلية. إذا كانت الحركات أزلية ومتعددة لزم القول بمحركين أوائل أزليين قد يصل عددهم من 47 إلى 55 وهى الكواكب.

وفى هذا السياق يمكن القول إن صورة الله عند الانسان تنطوي على تناقضات يلزم إقرارها. السؤال بعد ذلك: هل يصلح هذا القول أن يكون معبراً عن صورة الله عند الانسان فى أى زمان؟.


المصادر

بقلم: مراد وهبة https://middle-east-online.com/%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D8%AF%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%A7-%D9%82%D8%A8%D9%84%D9%87%D8%A7#off-canvas


تابعنا على وسائل التواصل الإجتماعي :
Previous Article

اللون الأزرق ورمزيته في علم النفس

Next Article

اللون الأحمر ورمزيته في علم النفس

Related Posts