تصفح

الماء المقدس – أسرار ودلالات رمزية

تتنوع أساطير الخلق حول العالم وتُظهر في كثير من الأحيان إختلافات في مواضع و وإتفاق في مواضع أخرى بحيث أن كل أسطورة خلق تختلف عن الآخرى نتيجة العوامل الأجتماعية والإقتصادية ولاحقاً السياسية لكل شعب يتبناها والتي بدورها تساهم في تكوين العامل النفسي لهذه الشعوب لكن المثير في معظم تلك الأساطير إتفاقها على ” الماء ” كمبدأ للوجود المعروف بالمحيط الكوني أو مياة الأزل أو مياه الفوضى.


تتنوع أساطير الخلق حول العالم وتُظهر في كثير من الأحيان إختلافات في مواضع و وإتفاق في مواضع أخرى بحيث أن كل أسطورة خلق تختلف عن الآخرى نتيجة العوامل الأجتماعية والإقتصادية ولاحقاً السياسية لكل شعب يتبناها والتي بدورها تساهم في تكوين العامل النفسي لهذه الشعوب لكن المثير في معظم تلك الأساطير إتفاقها على ” الماء ” كمبدأ للوجود المعروف بالمحيط الكوني أو مياة الأزل أو مياه الفوضى.

مياه الفوضى

– مياه الفوضى هي فكرة أسطورية موجودة في أساطير الخلق في العديد من الثقافات والحضارات التي تمثل العالم أو الكون الذي يلفه الماء البدائي فهذه الأساطير غالباً ما تبدأ بالمياه البدائية التي تملأ الكون بأكمله في الأصل كونها المصدر الأول لعالم الآلهة بفعل الخلق الذي يقابل إنشاء فضاء صالح للعيش منفصل عن المياه المحيطة.

لفهم هذه الظاهرة علينا دراسة التشابهات بين اساطير الشعوب المختلفة وتحديد ومحاولة فهم أسباب التشابه وخصوصاً من ناحية ترتيب الفوضى وبناء النظام فوق تلك الفوضى على سبيل المثال في اسطورة الخلق السومري نجد أن البداية كانت مع الأله “نمو ” المياه الأولى أو مياه الأزل لا شيء معها فكانت مياه الخلق التي إنبثق عنها كل شيء فقامت بخلق “أن ” الذكر إله السماء و “كي ” الإنثى ومن تزاوجهما كان الإله إنليل الذي فصلهما عن بعضهما فدفع الأرض للأسفل والسماء للأعلى.

في اسطورة الخلق البابلية “Enûma Elish” “إنوما إيليش”أو”عينوما عليش” في البداية لم يكن سوى أبسو وتيامات ومعهم “ممو” بخار الماء أو الضباب وأبسو وتيامات هما الشكل الذكوري والانثوي لمياه الفوضى التي نظمها الإلهان ” إيا ” الذي قتل “أبسو” وتبوأ مكانه وبنى فوقه هيكلاً له ” وولده ” بل ” أو “مردوخ” الذي قضى على الفوضى المتمثلة بتيامات وشطرها نصفان ليصنع من شطريها الأرض والسماء .

وفي الأسطورة السورية الأوغاريتية كان الإله يم اله البحر والمياه الفوضوية وبعد إنتصار الإله بعل على الفوضى المتمثلة بالإله “يم ” شرع بعل بتنظيم العالم وبنى هيكلاً له.

وفي معظم اساطير الخلق المصرية تظهر المياه الأولى أو مياه الأزل بالأسم ” نو ” أو “نون” التي تخرج منها اليابسة التلة الأولى تلة الازل ومعها يخرج الإله رع ليكون شمساً و مسؤولاً عن الكون بينما ” نون ” بقي في حدود الكون ممثلاً للموت والفوضى موطناً للنفوس المعذبة التي لم تخضع للتطهير ومع ملاحظة أننا نجد في أحد الأساطير ما نجده في بابل وسومر حول إنطباق السماء على الأرض وفصل الهواء لهما فنجد الجيل الثالث من الألهة أن ” ﺟﻴﺐ ” ﺇﻟﻪ ﺍﻻﺭﺽ ﺍﻟﻤﺬﻛّﺮ ﻭ ” ﻧﻮﺕ ‏” ﺍﻟﻬﺔ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻤﺆﻧﺜﺔ كان زوجان في ﺣﺎﻟﺔ ﺍﺗﺤﺎﺩ وكان زواجهما من دون مباركة الإله رع فبعث الإله “شو” إله الهواء والجفاف والدهما في بعض الأصدارت ابعدهما عن بعض فداس بقدمه جيب ورفع بيديه السماء ” نوت ” .

كما تصف اساطير الخلق الهندوسية مياه بدائية ويقال أن الإله الڤيدي براجاباتي ومعنى اسمه ” سيد الخلق ” وفي كثير من الأحيان يتم تعريفه مع الإله الهندوسي الشهير ” براهما ” قد ولد من بيضة ذهبية تم إحتضانها لمدة عام في المياه البدائية وفي رواية اخرى خرج من زهرة اللوتس التي كانت تعوم على المياه البدائية .

وﻓﻲ ﺍﻟﺘﻮﺭﺍﺓ الوصف الموافق للأساطير السابقة فنجد ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺍﻻﻭﻟﻰ ﻭﺭﻭﺡ ﺍﻟﺮﺏ ﻓﻮﻗﻬﺎ فنقرأ في التكوين 1″ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺍﻻﺭﺽ ﺧﺮﺑﺔ ﻭﺧﺎﻟﻴﺔ ﻭﺭﻭﺡ ﺍﻟﺮﺏ ﻳﺮﻑ ﻓﻮﻕ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﻤﺎﺀ ” كما نلاحظ قيام إله التوراة بذات الفعل الذي قام به مردوخ في فصل مياه الفوضى تيامات وخلق السماء والأرض منها فالنص التوراتي أقرب منه للبابلي من السومري فيقول في التكوين 1 :
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ : « ﻟﻴﻜﻦ ﺟﻠﺪ ﻓﻲ ﻭﺳﻂ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ . ﻭﻟﻴﻜﻦ ﻓﺎﺻﻼ ﺑﻴﻦ ﻣﻴﺎﻩ ﻭﻣﻴﺎﻩ ‏» .
7- ﻓﻌﻤﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺠﻠﺪ، ﻭﻓﺼﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺠﻠﺪ ﻭﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻮﻕ ﺍﻟﺠﻠﺪ . ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ .
8- ﻭﺩﻋﺎ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺠﻠﺪ ﺳﻤﺎﺀ . ﻭﻛﺎﻥ ﻣﺴﺎﺀ ﻭﻛﺎﻥ ﺻﺒﺎﺡ ﻳﻮﻣﺎ ﺛﺎﻧﻴﺎ .
9- ﻭﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ : ‏« ﻟﺘﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﻥ ﻭﺍﺣﺪ، ﻭﻟﺘﻈﻬﺮ ﺍﻟﻴﺎﺑﺴﺔ ‏» . ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ .
10- ﻭﺩﻋﺎ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻴﺎﺑﺴﺔ ﺃﺭﺿﺎ، ﻭﻣﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺩﻋﺎﻩ ﺑﺤﺎﺭﺍ . ﻭﺭﺃﻯ ﺍﻟﻠﻪ ﺫﻟﻚ ﺃﻧﻪ ﺣﺴﻦ .
مع ملاحظة ان التناخ يأخذ في بعض الاماكن النسخة السورية من اسطورة الخلق المتقاربة مع البابلية في حكاية بعل ويم و قتل الحية لوتان والتي تظهر ذاتها في التناخ في سفر إشعيا 27 بالإسم ” لواياثان ” والتي تعني الملتفة.

وﻓﻲ ﺃﻟﻘﺮﺁﻥ ﻧﺠﺪ ايضاً اﻟﻤﻴﺎﻩ البدائية فنقرأ مثلاً في سورة هود ‏”ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﺧﻠﻖ ﺍﻟﺴﻤﻮﺍﺕ ﻭﺍﻻﺭﺽ ﻓﻲ ﺳﺘﺔ ﺍﻳﺎﻡ ﻭﻛﺎﻥ ﻋﺮﺷﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺎﺀ ‏” وتأكيد على الخلق من الماء في سورة الأنبياء “ﻭﺟﻌﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻛﻞّ ﺷﻲﺀ ﺣﻲ ‏” لكن نلاحظ توافق النص القرآني مع الأسطورة السومرية أكثر من البابلية في الوصف فيقدم وصفاً لفصل السماء عن الأرض فنقرأ في سورة الأنبياء :
“ﺃﻭ ﻟﻢ ﻳﺮ ﺃﻟﺬﻳﻦ ﻛﻔﺮﻭﺍ ﺃﻥّ ﺃﻟﺴﻤﻮﺍﺕ ﻭﺃﻷﺭﺽ ﻛﺎﻧﺘﺎ ﺭﺗﻘﺎ ﻓﻔﺘﻘﻨﺎﻫﻤﺎ” .

لكن لماذا الماء ؟؟؟؟؟

قامت ﻣﺪﺭﺳﺔ ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ ﺑﺘﻔﺴﻴﺮ ﻧﻈﺮﻳﺔ الخلق ﺍﻟﻤﺎﺋﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﻧّﻬﺎ ﺍﻧﻌﻜﺎﺱ ﻟﺬﻛﺮﻯ ﻛﺎﻣﻨﺔ ﻓﻲ ﻻﺷﻌﻮﺭ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﺠﻨﻴﻦ ﻓﻲ ﺭﺣﻢ ﺍﻻﻡ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻥ ﻣﺤﺎﻃﺎ ﺑﺎﻟﻤﺎﺀ ” السائل الأمينوسي ” ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺠﻬﺎﺕ الذي يخرج قبل الولادة بالتالي يمثل الخلق من الماء والخروج منه نحو العالم الخارجي الجاف ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ هذه ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﺗﺴﺘﺨﺪﻡ أﺳﺎﻃﻴﺮ ﻓﺼﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻋﻦ ﺍﻻﺭﺽ لتأكيد ﻭﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﺳﻴﻄﺮﺓ ﻋﻘﺪﺓ ﺍﻭﺩﻳﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻐﻞ ﺣﻴﺰﺍً ﻛﺒﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ سيغموند ﻓﺮﻭﻳﺪ ﻓﺎﻟﺮﻏﺒﺔ ﺍﻟﻤﻜﺒﻮﺗﺔ ﻓﻲ ﻻﺷﻌﻮﺭ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻭﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ بإﺑﻌﺎﺩ ﺍلأﺏ ﻭﺍﻹﺳﺘﺌﺜﺎﺭ ﺑﺎلأﻡ ﺗﺠﺪ ﻣﺘﻨﻔﺴﺎ ﻟﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻻﺳﻄﻮﺭﺓ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮﻡ ﺍﻟﺒﻄﻞ ﺑﺈﺑﻌﺎﺩ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ‏’ ﺃﻻﺏ ‏”ﻭﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻻﺭﺽ ‏” ﺃﻷﻡ ‏”.

أما من خلال الملاحظة البسيطة خارج التحليل النفسي فيمكننا ملاحظة أهمية الماء لوجودنا بشكل بسيط دون تعقيدات فيجد الملاحظ أن حياته وحياة بقية الكائنات تعتمد على ركنين أساسيين بزوال أحدهما ينتهي وجوده وهما الغذاء والماء بالنسبة للغذاء فتتعدد الأشكال والبدائل التي تتجاوز مئات الألوف من الأنواع اذا غابت مادة فيوجد بديل لها أما الماء فهو مادة واحدة وفي حال إختفائها ينتهي الوجود .
وكما أدرك أن وجود الماء مهم أدرك أن المياه الفوضوية الغير مضبوطة تحمل الخراب والموت عن طريق الأعاصير والفيضانات بالتالي حمل معه الماء وجها الموت والحياة وجمع المتناقضات لذلك اعتبر القدماء الماء عنصراً إلهياً فريداً غامضاً قادراً يجمع المتناقضات بوجوده فيجمع ثلاثة أشكال صلب وغاز وسائل ويجمع المتناقضات كالموت والحياة في اثاره لذلك تم إعتبار الماء من قبل بعض الثقافات والفلاسفة القدامى أنه العنصر الإلهي الأساسي للكون.

أما فيما يخص المياه في التقاليد الدينية فنجد أن للماء دور هام في الحياة الجسدية والروحية للمتدين فتستخدم بعض المعتقدات المياه المعدة خصيصاً للأغراض الدينية والتي نسميها المياه المقدّسة و التي نجدها في معظم الأديان كالمسيحية والإسلامية والمندائية السيخية والهندوسية.. الخ
– كما تعتبر العديد من الديانات بعض المصادر المائية مقدسة أو على الأقل مباركة نتيجة ارتباطها بشخصيات مقدسة أو نتيجة ورودها من أماكن أو جبال مقدسة كنهر الأردن مثلاً له قدسية في بعض الكنائس المسيحية وبئر زمزم في الإسلام ونهر الغانج في الهندوسية
لذلك نجد في كثير من الأحيان أنه قد تم دمج المياه في العمارة المقدسة ونجد أحد اهم اقدم الدلالات المهمة عن هذا الفعل كان في الأساطير فنجد في الإينوما إيليش قيام الإله ” إيا ” اله المياه العذبة مثلاً ببناء هيكله فوق الأبسو وفعلاً لهذه الأسطورة مكانها في بلادنا بمراجعة سريعة سنجد أن العديد من المعابد في بلادنا قد تأسست على ينابيع طبيعية لا يزال بعضها يتدفق خارج المعابد ويمكن أن نحلل رمزية هذه الينابيع بأنها تمثل المياه البدائية في حين أن المعابد فوقها تدل على ترتيب الكون ومكان سكن الآلهة في المعبد المقدس لن اذكر لكم امثلة عن هذه المعابد في بلادنا فالأمثلة كثيرة ورائعة تعبر عن هذه الفكرة مع الملاحظة أنه في الأماكن الجافة الفقيرة بالينابيع كانت تعتمد معابدها على الأمطار الجمعية والتي كانت تبنى خزانات مياه جميعية خاصة فيها.

وهذه المياه المقدسة التي تنبع وتجمع من المعابد بشكل خاص والمياه بشكل عام تستخدم في طقوس التنقية المختلفة كالعمادة في المسيحية والوضوء في الإسلام والغسيل الطقسي في الديانة اليهودية بالإضافة إلى ذلك يتم إجراء طقوس في الماء النقي للموتى في العديد من الأديان بما في ذلك اليهودية والإسلام فهي ترمز إلى التطهير والولادة الجديدة والخصوبة وهذا ما نجده ضمن حكايا الطوفان المختلفة حول العالم ابتداءً بطوفان زيوسودرا واتراحاسيس واوتنابشتيم وفيضان النيل الذي يجلب معه المخلص اوزوريس وإنتهاءً بفيضان نوح .
فيمكن أن نستنتج أن الإنسان ادرك منذ القدم أهمية المياه في إزالة الأوساخ المادية والأدران العالقة به في الإستحمام وما تحمل هذه العملية من راحة جسدية ونفسية للإنسان فإعتقد أن المياه التي تنبع من الأماكن المقدسة بالنسبة له ستقوم بتطهير مزدوج تطهير جسدي وتطهير روحي كونها تنبع من أرض القداسة فتطهر الروح من الخطايا والذنوب وتجلب للمتطهر الخلاص الروحي كمطر الشتاء الذي يغسل خطايا الصيف ليجلب الخلاص للأرض في الربيع.

Amjad Sijary

تابعنا على وسائل التواصل الإجتماعي :
Previous Article

أسرار حرف الهاء

Next Article

الحجاب من الوثنية نحو الأديان السماوية

Related Posts