
تمنحنا الأساطير القديمة التي وصلت إلينا من خلال التدوينات الأثرية التي تم العثور عليها في أماكن مختلفة من العالم وخصوصاً في منطقتنا السورية – العراقية طريقاً مهماً لفهم تطور الفهم البشري لأنفسهم و ازماتهم وتجاربهم و تطلعاتهم و انشغالاتهم والتي مروا بها عبر هذا التاريخ الطويل ، فعلى سبيل المثال نجد في كل الثقافات، أسطورة عن الجنة المفقودة، التي عاش فيها البشر خالدين في حالة اتصال قريب ويومي مع الآلهة وعاشوا منسجمين مع الحيوانات، ومع الطبيعة كان لهذا العالم الخالد مركزاً ممثلاً إما بشجرة أو بجبل أو بمسلة عمودية تصل عالمهم بعالم الآلهة يستطيع الناس من خلال تسلقها أن يصلوا من خلالها إلى عالم الآلهة ثم حصلت كارثة ما أدت إلى قطع التواصل بين العالمين عبر عنها من خلال انهيار الجبل أو اقتطاع الشجرة، فأصبح الوصول إلى السماء أمرا صعبا أو مستحيلاً .
في الحقيقة نجد من خلال هذه الحكاية مدلولات قوية تشير لنا على رحلة الإنسان عبر تاريخه الطويل والإنتقال من عالم إعتبره في الماضي إلهي مليء بالراحة يحصل فيه الإنسان على الطعام الشراب والمأوى من دون عمل أو تعب والذي عبر فيما بعد عنه بالمقدس إلى عالم جديد موحش مؤلم يحتاج بذل الجهد والعمل للوصول إلى متطلبات الحيات ومنها كان الدنيوي .
لذلك نجد أن معظم أديان وميثولوجيات المجتمعات القديمة تسعى و تتوق إلى الرجوع إلى تلك الجنة الضائعة وتقدم أساطير وحكايات تحدد من خلالها تعاليم دينية توضح طرق العودة والرجوع إلى عالمهم النموذجي و المثالي عبر مجموعة من الممارسات الطقسية و الدنيوية التي تحدد تعاملاتهم اليومية التي إعتقدوا أنها تعبر عن صلاة أو حالة إتصال مع الآلهة تمنحهم الإحساس بالمشاركة في الوجود الإلهي .
علمت الميثولوجيات الأولى الإنسان أن ينظر من خلال عالمه الملموس إلى عالم ماورائي خفي ومبهم مليء بالأسرار فلم يفصل في الحقيقة بين ماهو حقيقي وماهو ماورائي كما نفعل اليوم فلم يكن لديه فصل بين المقدس والدنيوي فعندما كان ينظر مثلاً إلى الحجر لم يكن يراه مجرد صخرة جامدة لا قيمة لها، بل كان يراه يراه مشبعاً بالقوة و الصلابة ورمزاً لوجود مثالي يعبر عن الخلود بشكل يخالف وجوده الهش المؤقت مما جعل الحجر في العالم القديم تجسيداً للقداسة في أماكن مختلفة من العالم .
كذلك الأشجار بنوعيها دائم الخضرة الذي مثل الثبات والخلود و متساقط الأوراق الذي مثل التجدد عبر دورات الموت والولادة الأبدية بالتالي كانتا تمثيلاً للقدرة الحية على التجدد و الخلود التي حرم منها البشر .
كذلك تناقص واكتمال القمر فقد رأوا في ذلك شاهداً آخر على قدرات التجدد المقدسة المتمثلة الولادة والموت والقيامة .
ولا ننسى السماء فقد منحت السماء الإنسان التصور الأول عن الألوهية فعندما حدق الإنسان في هذه السماء اللانهائية والبعيدة والموجودة بشكل منفصل عن حياتهم تولدت لديهم أفكار وتخيلات منحتهم مادة مهمة تم ضخها في تجربتهم الدينية ، فالسماء الواسعة المبنية فوقهم لا يمكن استيعابها ولا يمكن الوصول إليها كما أنها أزلية تمثل جوهر التعالي عن العالم الأرضي فلا يمتلك البشر أي طريقة للتأثير عليها و التبديل أو التغير بها كما أن الظواهر التي تحدث فيها كالبرق والرعد و الخسوف والكسوف الأمطار و الرياح و الشهب و النيازك كلها تتحدث وتشير إلى عالم آخر يعيش حياته الديناميكية الخاصة الذي جعلهم يعتقدون أنه عالم إلهي ومسكن للآلهة الذين يحكمون عالمهم .
لذلك بقيت السماء رمزاً للتبجيل و القداسة فترة طويلة عبر تاريخ الإنسان الطويل فعندما تطورت حياته من خلال تطور مداركه ومهاراته وعرف الزراعة تبين له أن الميثولوجيا ستفشل لو اقتصرت على حقائق متعالية غير ملموسة فعمل في البداية على شخصنة السماء وبدأ يحكي قصصاً عديدة عنها معظمها تصفه وتعتبره إلهاً أكبر فاحتوت كل المعابد القديمة على “إله السماء” الذي تم اعتباره السبب في الوجود وتم تقدم العديد من الأساطير عن أصل الكون و عن طبيعة هذا الإله الذي ولا يمكن تمثيله بصور ، ليس له مقام أو ضريح ، المنزه عن كل شيء و الذي ينحني الناس إليه في صلاتهم ويؤمنون بأنه يراهم ويعاقبهم على أعمالهم السيئة.
في الحقيقة كل هذه التصورات الأولية كانت فاشلة بالنسبة للإنسان الأول محدود المدارك لأنها لم تلامس حياته الاعتيادية، ولم تخبره شيئا عن طبيعته البشرية، ولم تساعده على حل مشاكله الدائمة ، لهذا كان هذا الإله غائباً عن حياته اليومية مما جعل أهميته تتضائل تدريجياً و يبرز معها عدد من الآلهة الأبناء تقترب مهامهم ووظائفهم من تطلعات و حاجات الإنسان اليومية كما حدث مع إله السماء في بلاد الرافدين ” أنو “حين برز مكانه إبنه إله الرياح والعواصف “إنليل” وكما حدث مع أبو السماء الكنعاني “إيل” و الإله “بعل” إله البرق والعواصف الذي حيده أيضاً وكما حصل مع إله اليوناني “اورانوس” الذي حيده وخصاه إبنه “كرونوس” .
لكن حتى نكون دقيقين ، إن تخفيض مرتبة الآلهة العالية المتمثلة بالسماء لم يفقدها قيمتها بالمجمل بل ظل العلو والرفعة رمز الألوهية الأسطوري و سمة من سمات الروحانية ، ففي الحركات والتيارات الفلسفية الروحانية والغنوصية الصوفية و ديانات الأسرار ظل الإنسان يسعى بشكل مستمر نحو الصعود والإرتقاء ومن ثم التوحد بالإله وابتكر شعائر وتقنيات للوصول إلى حالة تركيز و نشوة روحيتين، مكنته من تطبيق قصص الصعود، والارتقاء إلى حالة أعلى من حالته الدنيوية ، فعلى مر التاريخ وصلنا الكثير من القصص دينية حول شخصيات دينية ارتقت وطارت الى السموات إلى مستويات متعددة من مراتب الوجود حتى وصلوا في النهاية إلى وجود أسمى متمثل بالمجال الإلهي بالتالي لا ينبغي قراءة هذه القصص حرفيا بل يجب قراءتها نفسياً ورمزياً فقصة قيامة المسيح مثلاً و بعدها صعوده إلى السماء لا يقصد منها تخيل المسيح مخترقا الغلاف الجوي بناسوته فقط و لا وعندما يقال أنه أسري بالنبي محمد من مكة إلى القدس ومن ثم صعوده بالعروج إلى العرش الإلهي علينا أن نفهم الحكاية بشكل رمزي يعبر تماما على أن هذه القصص تمثل اخترقاً لمستوى جديد من الكينونة الروحية أي أن هذه الشخصية قد تركت ضعف الوضع البشري وراءها وارتحلت بعيدا داخل عالم القداسة الواقع فوق تجربتنا الأرضية بالتالي هي تمثل توق الإنسان إلى التعالي الذي تمثله السماء، وتجعله يشعر بإمكانية الهرب من الوضع الإنساني الضعيف والارتقاء إلى ما يقع وراء المادة ، لهذا السبب تكون الطرق العمودية مقدسة في كثير من الديانات القديمة كما أسلفنا فالجبال مقدسة والشجرة مقدسة والمسلات و الأهرامات المصرية مقدسة والزقورات الرافدينية مقدسة فهي المسار العمودي الممتد من الأرض نحو السماء بالتالي هي الوسيط بين الأرض والجنة و الطيران لا يعني أنها رحلة بالجسد، ولكنها نشوة روحية يشعر من خلالها أن الروح فارقت الجسد و ارتقت .
المصادر
* Amjad Sejri, The Myth between the Earthly and the Sacred – The Philosophy of Ascension, Al-Thawra Newspaper, Cultural Supplement, Issue 1053, Tuesday 6/7/2021